فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{فِي الأرْضِ} الظّاهر: أنه متعلِّق بالفِعْل قَبْلَه، كقوله: {سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ} [البقرة: 205].
وقد أجيز أن يكون في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ؛ لأنَّه يجُوز أن لو تأخَّر عنه أن يكون صِفَةً له.
وأجيز أن يتعلَّق أيضًا بنَفْس {فسادًا}، وهذا إنَّما يَتمشّى إذا جعلْنَا {فَسَادًا} حالًا.
أمَّا إذا جَعَلْنَاهُ مصدرًا امتنع ذلك لِتَقَدُّمِهِ عليه، ولأنَّ المؤكد لا يَعْمَل.
وقرأ الجمهور {أنْ يُقَتَّلُوا} وما بعده من الفِعْلَين بالتثقيل، ومعناه: التَّكْثير بالنِّسْبَة إلى من تقعُ به هذه الأفْعَال.
وقرأ الحسن وابنُ مُحَيْصِن بِتَخْفِيفِهَا.
قوله تعالى: {مِن خِلافٍ} في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من {أيْدِيهِمْ} و{أرْجُلِهِمْ} أي: تقطع مختلف بمعنى: أن يقْطَع يَدَهُ اليُمْنَى، ورجله اليُسرى.
والنَّفي: الطَّرْد.
و{الأرض} المراد بها هاهُنَا ما يُريدُون الإقامَة بها، أو يُراد من أرْضِهِمْ.
و«ألْ» عوض من المضاف إليه عِنْد من يَرَاه.
قوله تعالى: {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا}.
{ذلك} إشارةٌ إلى الجزاء المُتقدِّم، وهو مُبْتَدأ.
وقوله: {لَهُمْ خِزْيٌ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكُون {لهم} خبرًا مُتقدِّمًا، و{خِزْي} مُبْتَدأ مُؤخَّر، و{فِي الدُّنْيا} صِفَةٌ له، فيتعلق بمحذُوف، أو يتعلَّق بنفس {خِزْي} على أنَّه ظَرْفيَّة، والجُمْلَة في محلِّ رفع خبر لـ {ذَلِكَ}.
الثاني: أن يكون {خِزْي} خبرًا لـ {ذلك}، و{لهم} مُتعلِّق بمحذُوف على أنَّه حال من {خِزْي}؛ لأنَّه في الأصْل صِفَةٌ له، فلمَّا قُدِّم انْتَصَب حالًا.
وأمَّا {في الدُّنْيَا} فيَجُوز فيه الوجهان المتقدِّمان من كونهِ صِفَةً لـ {خزي} أو مُتعلِّقًا به، ويجُوزُ فيه أن يكون مُتعلِّقًا بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به {لَهُم}.
الثالث: أن يكون {لَهُمْ} خبرًا لـ {ذلك} و{خِزْي} فاعل، ورفع الجار هنا الفاعل لمَّا اعْتَمَد على المُبْتدأ، و{فِي الدُّنْيَا} على هذا فيه الأوْجُه الثلاثة. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (34):

قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان التعبير ب {إنما} يدل بختم الجزاء على هذا الوجه، استثنى من المعاقبين هذه العقوبة بقوله: {إلا الذين تابوا} أي رجعوا عما كانوا عليه من المحاربة خوفًا من الله تعالى، ولذا قال: {من قبل} وأثبت الجار إشارة إلى القبول وإن طال زمن المعصية وقصر زمن التوبة {أن تقدروا عليهم} أي فإن تحتم الجزاء المذكور يسقط، فلا يجازون على ما يتعلق بحقوق الآدمي إلاّ إذا طلب صاحب الحق، فإن عفا كان له ذلك، وأما حق الله تعالى فإنه يسقط، وإلى هذا الإشارة أيضًا بقوله تعالى: {فاعلموا أن الله} أي على ما له من صفات العظمة {غفور رحيم} أي صفته ذلك أزلًا وأبدًا، فهو يفعل منه ما يشاء لمن يشاء، وأفهمت الآية أن التوبة بعد القدرة لا تسقط شيئًا من الحدود. اهـ.

.قال الفخر:

قال الشافعي رحمه الله تعالى: لما شرح ما يجب على هؤلاء المحاربين من الحدود والعقوبات استثنى عنه ما إذا تابوا قبل القدرة عليهم.
وضبط هذا الكلام أن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى فإنه يسقط بعد هذه التوبة، وما يتعلق منها بحقوق الآدميين فإنه لا يسقط، فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنسانًا ثم تابوا قبل القدرة عليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو، إلا أنه يزول حتم القتل بسبب هذه التوبة، وإن أخذ مالًا وجب عليه رده ولم يكن عليه قطع اليد أو الرجل، وأما إذا تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه، وتقام الحدود عليه.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: ويحتمل أن يسقط كل حد الله بالتوبة، لأن ماعزًا لما رجم أظهر توبته، فلما تمموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «هلا تركتموه» أو لفظ هذا معناه، وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الثعلبي:

{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ}.
قال أكثر العلماء: إلاّ الذين تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم وآمنوا وأصلحوا من قبل القدرة عليهم فإنه لا سبيل عليهم بشيء من الحدود التي ذكرها اللّه في هذه والآية لأحد قبله فيما أصاب في حال كفره لا في مال ولا في دم ولا حرمة، هذا حكم المشركين والمحاربين.
فأما المسلمون المحاربون فاختلفوا فيهم.
فقال بعضهم: سقط عنه بتوبته من قبل أن يقدر عليه حدّ اللّه ولا يسقط عنه بها حقوق بني آدم وهو قول الشافعي.
وقال بعضهم: يسقط عنهم جميع ذلك ولا يؤخذ شيء من أمواله الاّ أن يوجد عنده مال بعينه فيرده إلى صاحبه ويطلبه وليّ دم بدم يقوم عليه البينة فيه فيقاد به، وأما الدماء والأموال التي أصابها ولم يطلبها أولياؤه فلا يتبعه الإمام، على هذا قول مالك، والأوازعي والليث بن سعد.
وقال بعضهم: إذا استأمن من وصايانا من قبل أن يقدم عليه قبل اللّه توبته ولا يؤخذ بشيء من جناياته التي سلفت فلا يكون لأحد قبله معه في دم ولا مال.
وهذا قول السدّي يدل عليه. وروى الشعبي أنّ حارثة بن يزيد خرج محاربًا في عهد علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فأخاف السبل وسفك الدّماء وأخذ الأموال ثم جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه فأتى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فطلب إليه أن يستأمن له فأتى ابن جعفر فأتى عليه فأتى سعيد بن قيس الهمدالي فقبّله وضمّه إليه فلمّا صلّى علي رضي الله عنه الغداة أتاه سعيد بن قيس. فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض قال: ما تقول فيمن تاب قبل أن تقدر عليه فقال أقول: كما قال اللّه عز وجل: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} الآية.
فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر، قال: نعم فجاء إليه فبايعه وآمنه وكتب له أمانًا منشورًا.
فقال حارثة:
ألا أبلغا همدان إما لقيتها ** على النأي لا يسلم عدوٌ يعيبها

لعمر أبيها إن همدان تتقي إلا ** له ويقضي بالكتاب خطيبها

قال الشعبي: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في أمارة عثمان بن عفّان رضي الله عنه بعد ما صلّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المهدي وأني كنت حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض وإني تبت من قبل أن يقدر عليّ، فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان وإنه كان يحارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض بفساد فإنه تاب من قبل أن يقدر عليه فمن لقيه فلا يعرضن إلاّ بخير فإن يك صادقًا فسبيله سبيل من صدق. وإن يك كاذبًا تدركه ذنوبه، فأقام الرجل فاستأذن وإنه خرج فأدركه اللّه بذنوبه فقتله.
وروى الليث بن سعيد عن محمد بن إسحاق أن عليًا الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبته الأئمّة والعامّة فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبًا وذلك أنّه سمع رجلًا يقرأ هذه الآية {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ} [الزمر: 53] الآية فوقف عليه، فقال: يا عبد اللّه أعد فأعادها عليه فغمد سيفه ثم جاء تائبًا حتى قدم المدينة من السَحر ثم اغتسل وأتى مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلّى الصبح ثم مضى إلى أبي هريرة وهو في غمار أصحابه فلما استغفر عرفه الناس فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ جئت تائبًا من قبل أن تقدروا عليَّ.
فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا عليّ جاء تائبًا ولا سبيل لكم عليه فترك، وخرج عليّ تائبًا مجاهدًا في سبيل اللّه في البحر فلقوا الروم فقربوا سفينة إلى سفينته من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا إلى شقها الآخر فمالت ثم أوقعهم فغرقوا جميعًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} استثنى عز وجل التائب قبل أن يقدر عليه وأخبر بسقوط حقوق الله عنه بقوله تعالى: {فاعلموا أن الله غفور رحيم} واختلف الناس في معنى الآية فقال قتادة والزهري في كتاب الأشراف: ذلك لأهل الشرك.
قال القاضي أبو محمد: من حيث رأيا الوعيد بعد العقاب، وهذا ضعيف، والعلماء على أن الآية في المؤمنين وأن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه فقط سقط عنه حكم الحرابة ولا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين، فإن طلبه أحد بدم نظر فيه وأقاد منه إذا كان الطالب وليًا، وكذلك يتبع بما وجد عنده من مال الغير وبقيمة ما استهلك من الأموال، هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ذكره ابن المنذر، وقال قوم من الصحابة والتابعين: إنه لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده بعينه، وأما ما استهلك فلا يطلب به، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربًا ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له بسقوط الأموال والدم كتابًا منشورًا، وحكى الطبري عن عروة بن الزبير أنه قال: لا تقبل توبة المحارب، ولو قبلت لاجترؤوا وكان فساد كثير ولكن لو فر إلى العدو ثم جاء تائبًا لم أر عليه عقوبة.
قال القاضي أبو محمد: لا أدري هل أراد ارتد أم لا، وقال الأوزاعي نحوه إلا أنه قال: إذا لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام أبو بقي عليه ثم جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه قبلت توبته.
قال القاضي أبو محمد: والصحيح من هذا كله مذهب الفقهاء الذي قررته آنفًا أن حكم الحرابة يسقط ويبقى كسائر المسلمين، واختلف إذا كان المال أقل مما يقطع فيه السارق، فقال مالك: ذلك كالكثير، وقال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يقطع من المحاربين إلا من أخذ ما يقطع فيه السارق. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أما على قول من قال: هي في أهل الشرك فظاهر، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء.
وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن مجاهد عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة، وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالا من قريش منهم: الحسن بن علي، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، فكلموا عليًا، فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره، ثم أتى عليًا فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، فقرأ حتى بلغ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} قال: فكتب له أمانًا. قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر.
وكذا رواه ابن جرير من غير وجه، عن مجاهد عن الشعبي، به. وزاد: فقال حارثة بن بدر:
ألا أبلغَن هَمْدان إمَّا لقيتَها ** عَلى النَّأي لا يَسْلمْ عَدو يعيبُها

لَعَمْرُ أبِيها إنَّ هَمْدان تَتَّقِي الـ ** إلَه ويَقْضي بالكتاب خَطيبُها

وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري، عن السُّدِّي- ومن طريق أشعث، كلاهما عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مَراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان، رضي الله عنه، بعدما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى، هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادًا، وإني تبت من قبل أن يُقْدر عليَّ. فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، وإنه تاب من قبل أن يُقْدَرَ عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقا فسبيل من صدق، وإن يك كاذبًا تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله.